ثابت البطل قصة المجد والدموع
جنازة شعبية فى وداع بطل اسطورى!
آخر كلماته: خلاص يا شطة.. المباراة انتهت!
حكاية مدينة مصرية تحولت الى سرادق كبير
البطل انتقل للأهلى مقابل 200 جنيه فقط
مات واقفا ثابت البطل حارس مرمى منتخب مصر ومدير الكرة بالنادى الاهلى، كان يعلم أن أيامه فى الدنيا باتت محدودة، ورفض الانصياع لاوامر الأطباء، بالتزام الراحة فى بيته، قبل مباراة القمة الأخيرة، أبى على نفسه أن يترك الفريق، فى أهم مباريات الموسم، التى انتهت بفوز الأهلى 3/صفر.. وكان هذا الفوز الكبير، تتويجا لرحلة المجد التى بدأها الأهلى هذا الموسم وحطم خلالها كل الأرقام القياسية، كان الفوز على الزمالك تتويجا لهذه الانتصارات، وكان المهمة الأخيرة لثابت البطل، فقد انجزها بنجاح ثم انصرف بعدما اطمأن على الفريق، وبعدما حقق الفريق فى ظل ادارته اعظم انجازاته على الاطلاق؟
انتهت المباراة التى حضرها ثابت البطل ملتحفا ببطانية، فانتهت مهمته، وغادر الملعب، ثم غادر الدنيا كلها!
وكان يوم وداعه مهيباً، خرجت مدينة الحوامدية بأسرها لوداع واحد من أبر ابنائها، ثابت البطل، كانت مدينة الحوامدية - قبل ظهوره مقترنة بانتاج السكر، وبعدما ظهر ثابت البطل، وتألق فى صفوف الأهلى ومنتخب مصر، باتت الحوامدية - تعرف بثابت البطل!
آلاف الاشخاص ساروا وراء الجثمان، وخرجت النساء من الشرفات تبكين وتلوحن للجثمان والدموع فى اعينهن، وقد ارتدين ملابس الحداد السوداء، المدينة كلها كانت ترتدى ملابس الحداد، وقد تحولت الى سرادق كبير.
وراء الجثمان كان نجوم الأهلى الذين عاصروه والذين اعقبوه وعلى رأسهم رئيس النادى الاهلى حسن حمدى، ومصطفى عبده، واكرامى، وزيزو وشوبير ومجدى عبدالغنى وفتحى مبروك ومحمود صالح وطاهر أبو زيد وحمادة صدقى .وهادى خشبة وسيد عبدالحفيظ وياسر ريان وابو تريكة وعلى ماهر. فضلا عن هشام سعيد عضو مجلس الادارة، ومحمود باجنيد امين الصندوق ومحرم الراغب مديرعام النادى، وكان الخطيب مسافرا بالخارج، وظل على اتصال باكرامى .خلال الجنازة، وكان منهارا لانه لا يستطيع حضور الجنازة، واصيب عدد كبير من المشيعين باختناق جراء الزحام الشديد، وفى المقبرة كان الجميع هناك، وبعدما وورى جثمان ثابت البطل الثرى وسط دموع الجميع، راح طاهر ابو زيد يتلو الدعاء له بالرحمة والمغفرة، والجميع يرددون وراءه آمين بينما الدموع تذرف.
والتقيت بافراد عائلته واصدقاء الطفولة ومنهم محيى البطل .ابن عمه، وقال كنا نلعب سويا فى الحقول حين كنا اطفالا وكان ثابت من عشاق البلح الامهات والخس وكان يتسلق النخيل وقتها كنا فى مدرسة بسام الابتدائية وانتقلنا الى مدرسة الحوامدية الاعدادية، فى تلك الاثناء - لعب ثابت لاشبال شركة السكر كحارس مرمى!
ويروى ان ثابت البطل ذهب للزمالك قبل الأهلى، ولم يتم اختياره، وطلبوا منه استغناء اولا من نادى السكر إلا أن مدربه رفض منحه الاستغناء، فقد كان اهلاويا، وكان اخوة ثابت البطل جميعا اهلاوية، وكان ثابت يظن ان فرصته فى الزمالك ربما تكون أسهل من الأهلى وفى تلك الاثناء استطاع عبدالمنعم البقال كشاف الأهلى الأسطورى الذى سبق ان اكتشف الشربينى ورفعت الفناجيلى وطه اسماعيل وغيرهم.. استطاع الحصول على استغناء من نادى السكر بالحوامدية مقابل 200 جنيه وكان هذا المبلغ كبيرا عام 1972.
ويقول شقيقه عبدالمغيث وهو يصغره بأربع سنوات: لم يكن ثابت البطل مجرد أخى الاكبر. كان صديقى وأبى كان .يشجعنى على حراسة المرمى، ويطلب منى ان ارتمى على الكرة دون خوف أو وجل، وكنت ارافقه فى رحلاته الرياضية.. وفى وقت ما طلب منى ان اترك الكرة تماما حرصا على مستقبلى، فأكملت دراستى وصرت مهندسا بشركة السكر بالحوامدية وقال لي: ان الكرة لن تنفعك اذا فقدت دراستك، ثابت نفسه تخرج فى كلية الدراسات التعاونية عام 1980 وتزوج من حنان حلمى صبرى وانجب ابنتيه لينا ولاميس وهما يدرسان بالأكاديمية البحرية بالإسكندرية.
ويقول عبدالمغيث ان المرحوم كان شخصية جادة جدا، كان نموذجا فى الالتزام والرجولة، وكان صريحا مع اصدقائه وزملائه، وفى ذات الوقت كان طيبا جدا، وكريما مع الجميع.
أما سعد الغزالي أحد ابناء الحوامدية، وحامل امانات ثابت البطل فيقول:
كان المرحوم خيرا مع الجميع، يتعاطف مع الفقراء، كان يكلفنى فى المواسم بشراء العجول وذبحها وتوزيع لحمها على الفقراء، وكان يرسل لى الفلوس ويطمئن بنفسه على انجاز المهمة، وكان يوصينى أن أتوجه لبيوت بعض الفقراء وأسلم لهم مساعدات، وكان دائما يقول لي: نفسى أعمل حاجة كبيرة لاهل الحوامدية، نفسى أعمل حاجة لمساعدة الفقراء بحيث لا يكون هناك فقراء فى بلدتى، كان هذا هو الحلم الذى لم يستطع تحقيقه حتى مات!
بعد الجنازة، التقيت بلاعب من جيله، كانت علاقته به خاصة ولصيقة، انه شطه لاعب الاهلى، الذى زامله ورافقه فى السكن بشقة واحدة، لمدة ثلاث سنوات فى القاهرة، اعوام 72، 73، 74- كان شطة حزينا وملتاعا، قال شطه: كان ثابت البطل يعرف انه سيموت وان ايامه فى الدنيا معدودة وقد تقبل قضاء الله بإيمان كبير ، فقبل سفرى لحضور بطولة المريديان ذهبت اطمئن عليه، واودعه، وقلت له جئت لاسلم عليك: فسكت ونظر لى وراح يقاوم بصعوبة دمعة طفرت من عينيه، ويحاول اخفاء الدموع بابتسامة مصطنعة: خلاص يا شطة المباراة انتهت لقد اوشكت على الرحيل وربما لا نلتقى بعد الآن!
فاحتضنته وانا أحاول اخفاء دموعى وقلت له: خليها على الله ياثابت، ولا ترهق نفسك اكثر من اللازم.
** يومها تركته، وجلست فى سيارتى ورحت أبكى! فقد عايشت ثابت البطل ثلاث سنوات كاملة فى شقة واحدة كنا نتقاسم فيها كل شيء، الطعام والملابس.. والنكات والافراح والمشاكل، والأحزان، وكان ثابت رجلا بمعنى الكلمة، لا يفشى سرا، ويرد عنك غيبتك، تركت شطة فى حالة ذهول، والدموع تغسل وجهه، وتوجهت الى المنزل رقم 39 المجاور لمسجد الحامدية الشاذلية، حيث عاش ثابت البطل طفولته وشبابه مع أسرته المكونة من والده الحاج ثابت دسوقى ووالدته واخوته عبدالمغيث وأشجان وابناء عمومته وخالاته قدرية والحاجة فريال التى رافقته فى رحلة الحج الأخيرة.
كان الموقف عصيبا على الجميع، البلد بأسرها فى حالة حزن، وثابت البطل هو فقيد كل بيت من بيوت الحوامدية، وحين بدا الليل يزحف عدت من هناك، وتركت البلدة كلها حزينة، وتستطيع ان تسمع النحيب قادما من الشرفات والشبابيك، ومن خلف الابواب، كلما مررت باحد الشوارع.
وفى سرادق العزاء، وقف الجميع أعضاء مجلس إدارة الأهلى جميعا، ومعهم الكابتن طارق سليم، ورفقه الطريق جميعا اعضاء فريق الكرة الذين رافقوا ثابت وزاملوه، بفريق السبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات، جيل مصطفى يونس وصديقهما المشترك: اكرامى ومعهم مجدى عبدالغنى وزيزو وشوبير وكنت تشعر ان الفقيد كان عزيزا على الجميع، كان ثابت البطل، هو الفقيد الشخصى لعشرات اللاعبين ومئات الرياضيين، فقد امتلأ سرادق العزاء عن اخره، ولم يكن هناك مكان لقدم، واضطر المقرئ ان يصدق وينهى القرار كل خمس دقائق، لاتاحة الفرصة لطوابير المعزين للدخول، والاختراق، وكان بينهم نجوم الكرة الزملكاوية من جيل ابو رجيلة وطه بصرى وحسن شحاته وفاروق جعفر، الى الجيل الحالى وكان بينهم من الاجيال القوية فى الأهلى عادل هيكل، وتكررت الحشود التى فى الجنازة، ولعل السبب، ان ثابت البطل ضرب مثلا فى العطاء والتضحية والاخلاص لناديه. بل فى مقاومة المرض ببسالة وبطولة ونضال، وكان جنديا أبى ان يترك السلاح، وظل فى ميدان المعركة حتى النفس الاخير وحتى الطلقة الأخيرة!
لقد ضرب مثلا فى حب الأهلى، وضرب مثلا فى اتقان العمل، وكان نموذجا وقدوة.. وبطلا توحد الناس معه وتعاطفوا معه فى محنة المرض.. وكأنه كان بديلا..
للبطل المفقود.. الذى نبحث عنه جميعا!